بدأت العلاقة المميزة بين النظام السوري ونظام الجمهورية الإسلامية، منذ الأيام الأولى لقيامها، وعلى الرغم من وقوف حافظ الأسد إلى جانب إيران في الحرب مع العراق، الذي كان يقوده القسم الثاني من حزب البعث ذاته، فإن حافظ الأسد حرص على بقاء نوع من التوازن في علاقته بالأنظمة العربية، وبخاصة السعودية، ومن جهة أخرى، كان حريصًا على ألا يكون لإيران تأثير في الداخل السوري، غير أن هذا التوازن بدأ بالاختلال، بعد تولي بشار الأسد السلطة التي ورثها عن والده؛ إذ بدأ تأثير إيران بالتغلغل في داخل المجتمع السوري، وبدأ نشاط التشييع وإقامة الحسينيات، ولكنها ظلّت محدودة، إذ كان النظام يخشى ردة فعل مجتمعية وعربية، غير أن تأثير إيران في أوساط الضباط العلويين، في الجيش والأمن، كان ينمو بالتدريج.
بعد انطلاقة ثورات الربيع العربي في تونس، وإزاحة بن علي في أواخر 2010، وانتقالها إلى مصر وإزاحة مبارك؛ شعر النظام السوري بالقلق على مصيره، ومع انتقال الربيع العربي إلى ليبيا واليمن، أصيب النظام بالرعب، وبدأ يتوجس من احتمال انتقال الربيع الى سورية، وهنا كانت إيران جاهزة لتعرض دعمها المطلق لبشار الأسد ونظامه، ودفعته إلى إبداء موقف متصلب تجاه الحراك المدني السلمي، وألا يبدي أي ليونة أو تنازل ولو كان صغيرًا، وشجعته على استخدام العنف، بمختلف أشكاله، وأرسلت إليه ضباطًا عسكريين وخبراء إنترنت وجنودًا مدربين على استخدام القنّاصات، فقد رأت إيران في توريط الأسد في صراع داخلي فرصتَها ليصبح الأسد في موقف ضعيف يجعله يفتح الباب أمام تدخلها الواسع في الجيش وأجهزة الدولة والمجتمع والاقتصاد، ومن ثم يمكنها من السيطرة على سورية، كما تسيطر على العراق ولبنان.
تغيرت العلاقة إذًا بين الدولة السورية والدولة الإيرانية، على نحو دراماتيكي، ابتداءً من آذار/ مارس 2011، ليكون تاريخ انطلاق الثورة السورية في آذار من ذلك العام حاسمًا في مستقبل سورية.
فالعلاقة التي كانت علاقة حلفاء، إلى حد بعيد، تغيّرت نوعيًا لتصبح علاقة تبعية وهيمنة، يمارس فيه نظام الملالي في طهران أشكال السلطة كلها، العسكرية والأمنية والاقتصادية والسياسية والثقافية، على المؤسسات السورية التي غدت مخترقة في العمق بصورة غير مباشرة، من جانب وكلاء النظام الإيراني وعملائه، وبصورة مباشرة أيضًا من خلال قادة كبار عسكريين وسياسيين ورجال أعمال، وكانت كلمة الجنرال قاسم سليماني (القائد السابق لفيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني) قبل اغتياله، مسموعةً عند قادة النظام السوري، وكان هناك مَن يتعامل معه على أنه الحاكم الفعلي لسورية.
لم يكن النفوذ الإيراني الواسع في سورية ناتجًا عن هيمنة عسكرية الطابع فحسب، فالتغلغل الإيراني في مفاصل الدولة السورية جميعها كان متعدد الأوجه، ومتنوع التأثير، وذا طابع مهيمن يعتمد على التخطيط واستدامة الأثر والتأثير، وهو ما يجب الانتباه إليه والتعامل معه على أنه نفوذ عميق، من المرجح أن يستمر، حتى لو سقط نظام الأسد وجرى بناء نظام حكم جديد.
شكلت معركة القصير، غربي حمص، في مطلع 2013، نقطة انعطاف رئيسة في استراتيجية إيران العسكرية في سورية، حيث انتقلت طهران من مرحلة دعم قوات نظام الأسد، لوجستيًا واستخباراتيًا وتدريبيًا، إلى مرحلة تولي ضباط الحرس الثوري قيادة المعارك والعمليات العسكرية بصورة مباشرة، وبتنفيذ مباشر من جانب ميليشيات (حزب الله) اللبناني، والميليشيات الشيعية الأخرى، مثل (زينبيون) و(فاطميون) وغيرهم، ولم تعد القيادة الإيرانية تهتم بإخفاء مشاركتها العسكرية في الصراع في سورية، واتضحت ملامح السياسات الإيرانية في سورية، وظهر التخطيط الاستراتيجي المستدام فيها، والعمل على ترتيب أوضاع سورية بما يتجاوز مرحلة بشار الأسد، من خلال الاعتماد على الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران، وتحييد قوات الجيش السوري عن المواقع العسكرية ذات الأهمية الاستراتيجية.
ولم يقتصر الدور الإيراني في سورية على الجانب العسكري، وهو الأبرز في السنوات العشر الأخيرة، فنشاط إيران الآخر الرامي إلى إحكام السيطرة على مفاصل الدولة السورية وبنى المجتمع السوري كان يواصل تأثيره في المشهد السوري؛ مستكملًا جهود التغلغل والنفوذ على الصعد كافة، الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ليشكل التدخّل الإيراني أبرز فاعل في المشهد السوري، وأشدّ أدوار التدخلات الدولية في سورية أثرًا، وقد ترك ذلك آثارًا عميقة في البنية المجتمعية فيها، وكان له الدور الأبرز في تأجيج الصراع في سورية، وساهم إلى حد كبير في تمزيق المجتمع السوري، وفي خلق بؤر توتر وتفجير مستقبلية، عبر دعم كيانات طائفية على حساب أخرى، واللعب في التوازن الاجتماعي.
ونظرًا إلى عمق التورط السياسي والعسكري وحجم الاستثمارات المالية والعسكرية لإيران في سورية، يصعب تصور قبول طهران بالتراجع عن نفوذها والانكفاء عن سورية، وتفكيك بنى ومواقع تموضعها على الأرض السورية، من دون أن تتعرض لخسارات وتُجبر على تقديم تنازلات مريرة، لن تحصل من دون حدوث تحولات كبيرة حاسمة في ميزان القوى، في داخل سورية وفي محيطها الإقليمي، بخاصة أن القيادة الإيرانية لا تخضع للمحاسبة الداخلية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى القيادة العسكرية، ومن ثم فإن خساراتها حتى الآن تنحصر في فقدانها أوراق القوة الناعمة في محيطها الإقليمي.
وبالنظر إلى خطورة العبث الإيراني في النسيج المجتمعي السوري، نحاول في هذه الدراسة، بداية، دراسة أسباب اهتمام إيران بالساحة السورية، ومن ثم تحديد أبرز سمات هذا التدخل وأدواته وآثاره.
أهمية الدراسة:
تبرز أهمية الدراسة في خطر العبث الديموغرافي، والهيمنة السياسية والاقتصادية والثقافية والتعليمية التي تهيأت لإيران على المجتمع والدولة السورية، بفعل دعم وتواطؤ النظام السوري، وطموحات إيران لفرض نفوذها على سورية، وآثار هذه السياسات في مستقبل سورية وتركيبة نسيجها المجتمعي.
هدف الدراسة:
يتلخص هدف الدراسـة في إظهار أسباب وسمات وأدوات التدخل الإيراني في سورية، وإبراز نتائج هذا التدخل والعبث في تركيبة ونسيج المجتمع السوري خلال 10 سنوات من الثورة السورية، واستخلاص النتائج، وتقديم توصيات بشأن موضوع الدراسة.
منهج الدراسة:
لتحقيق هدف الدراسة، اعتمد الباحث أدوات بحثية عدة:
العمل المكتبي:
- – مراجعـة وتتبع الدراسـات والأبحـاث والتقاريـر السـابقة التـي تناولـت موضـوع التدخل والهيمنة الإيرانية في سورية.
- – رصد وتحليل التغيرات التي طرأت على بنية المجتمع السوري ومفاصل الدولة السورية ومؤسساتها ومستوياتها المختلفة.
- – إجراء مقارنات بشأن الواقع السكاني، لمناطق شملتها الدراسة قبل التهجير والسيطرة الإيرانية عليها وبعدها.
العمل الميداني:
- – رصد جامعو بيانات ومعلومات محليون متعاونون واقع مناطق التغلغل الإيراني والتغييرات السكانية الحاصلة من جراء عمليات التهجير التي ساهمت الميليشيات الموالية لإيران فيها، ووثقوها.
- – رصد جامعو البيانات أدوات تغلغل النفوذ الإيراني في مؤسسات وقطاعات الدولة السورية ونتائجه.
- – أجريت مقابلات معمقة مع ناشطين وأهالٍ من سكان مناطق التهجير والتغيير الديموغرافي، وغيرها من المناطق التي تفرض قوات إيرانية وميليشيات موالية لها السيطرة عليها.
صعوبات الدراسة:
- – صعوبة دخول جامعي البيانات إلى مناطق سيطرة النظام السوري وحركتهم فيها، وبخاصة تلك التي تمنع عودة المدنيين المهجرين إليها، بسبب الإجراءات الأمنية ومخاطر استهدافهم من أجهزة الأمن والميليشيات الموالية لإيران.
- – عدم القدرة على الوصول إلى مصادر معلومات رسمية ووثائق حكومية، يمكن اعتمادها مرجعًا أساسًا.
- – عدم وجود معلومات رسمية عسكرية أو أمنية أو ديموغرافية متاحة للباحثين عن موضوع الدراسة.
- – عدم القدرة على التحقق من المعلومات المتضاربة بشأن تجنيس موالين لإيران في سورية، وإحلال عدد منهم في مناطق مغلقة أمنيًا وعسكريًا، وبشأن أعداد المتشيعين في سورية.
- – اعتماد الباحث في مناطق كثيرة على جامعي بيانات محليين متعاونين غير مدرّبين على آليات البحث الميداني.
ونظرًا إلى المخاطر الأمنية المهددة لفريق جامعي البيانات والمعلومات المتعاونين في بعض المناطق، فقد أغفلنا أسماء عدد من المتعاونين المحليين، في حين أُعلنَت أسماء المتعاونين الذين أبدوا موافقتهم.
وتجدر الإشارة إلى أن جداول هذه الدراسة ومقارناتها وإحصاءاتها وملاحقها قد أُعدّتْ استنادًا إلى معلومات جمعها فريق البحث وفريق جمع البيانات والمعلومات المحليان المتعاونان من أبناء المناطق، بوصفها مصادر خاصة بالبحث، وإلى أن الأرقام والمعلومات الواردة في هذه الإحصاءات والملاحق تستند إلى تقديرات تقوم على مشاهدات عيانية، ومصادر بيانات ومعلومات مفتوحة، لا إلى إحصاءات فعلية؛ لأن النظام السوري لا يسمح بإجراء دراسات ميدانية، ولأن المكتب المركزي للإحصاء لم ينشر معلومات أو إحصاءات بشأن موضوع الدراسة، خلال سنوات الثورة السورية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق