جاري تحميل ... المشرق بوست

إعلان الرئيسية

أخبار

إعلان في أعلي التدوينة

أخبارالعالم العربيتركيا

العودة الطوعية وواقع اللاجئ السوري في تركيا

لم يكن خيار اللجوء أو الهجرة خيارَ ترفٍ أمام السوريين الذين تركوا بلدهم، إبان الحرب الشعواء التي أطلقها نظام الأسد عليهم بداية الأحداث عام 2011، إنما كان اضطرارًا قهريًّا؛ فالبراميل المتفجرة والأشلاء المتطايرة، والسلاح الكيمياوي وتسوية التجمعات السكنية بالأرض، كل ذلك كان كفيلًا بدفع أرباب الأسر السورية إلى الفرار بأطفالهم، واتخاذ خيار الهجرة واللجوء خيارًا يكاد يكون وحيدًا، وقد خذلهم العالم، وتعطّلت أساليب الدفاع المجدية عن النفس، أمام ماكينة عسكرية روسية وإيرانية، وأمام الماكينة الأسدية التي يفترض أنها حكومية، وأنّ واجبها الدفاع عن السوريين لا قتلهم.

بدأت موجات اللجوء السوري تجاه دول العالم، وكان للدول الحدودية النصيبُ الأكبر منها، بحكم الموقع الجغرافي، وتركيا التي تملك حدودًا طويلة مع سورية تتجاوز 900 كيلومتر كان لها حصّة الأسد، حيث وصل عدد اللاجئين السوريين فيها إلى 3.7 مليون لاجئ.

رحّب الأتراك بموجات اللجوء السورية بادئ الأمر، وفتحوا أرضهم لإيوائها، لكنَّ مشاعر الاستياء بدأت تظهر رويدًا رويدًا، وكانت لها أسبابها الاقتصادية والمجتمعية والسياسية المتنوعة، وكان لنهج المعارضة التركية اليد الطولى في استغلالها وتذكية نارها لأهداف سياسية واضحة. وبدا أن السوريين وقعوا في أتون تلك النار، وأنهم باتوا في الآونة الأخيرة ضحية اعتداءات وانتهاكات عنصرية خلّفتها الحملة الإعلامية ضدّهم والمعلومات المتضاربة والمغلوطة حولهم، فضلًا عن إجراءات وقوانين تركتهم في حيرة، فلا هم قادرون على العودة إلى بلدهم، ولا هم قادرون على الخروج من تركيا تجاه دول أخرى، وإن اضطروا إلى ترك ما أشادوه في تركيا من مشاريع وأعمال.

برز اليوم مشروع العودة الطوعية، وبرزت معه العديد من التساؤلات حول مشروعية وقانونية وإنسانية وواقعية هذا الطرح، وحول وضع اللاجئين السوريين في تركيا، ما بين تحريض المعارضة ورغبة الحكومة بتنظيم بقاء اللاجئين على أراضيها والتي ظهرت خلال السنوات الأولى من استقبالها لهم.

وضع اللاجئين السوريين في تركيا

أولًا – من الناحية الإنسانية والمجتمعية:

اعتمدت الحكومة التركية، مع بدء تدفق اللاجئين السوريين إلى أراضيها، النهج الإنساني، وصرّحت بأن تعاطيها معهم يستند إلى مبدأ الضيافة، واصفةً اللاجئين السوريين بالمهاجرين، والمجتمع التركي بالأنصار.

إنّ هذا التكييف لوجود اللاجئين يفترض -بحسب الثقافة التركية السورية المشتركة المستمدة من خلفية دينية- نوعًا محددًا من التعامل، يقتضي الأخوة بين الطرفين، غير أنّ هذا النوع يفتقر إلى السند القانوني الضابط لحقوق وواجبات الطرفين.

طرح الضيافة لاقى قبولًا بادئ الأمر، لكنه سرعان ما اصطدم بالواقع، ووجد اللاجئ السوري نفسه، وهو المفتقر إلى جهة قيادية تنظم وجوده نفسه، أمام فراغ قانوني، وضبابية جعلت منه فريسة لأطماع سياسية استثمرتها جهات معارضة تركية لتحقيق مكاسبها.

إنّ الاختلاط المفاجئ بين المجتمع السوري اللاجئ والمجتمع التركي أظهر فروقات ثقافية ومجتمعية ليست بالقليلة، زاد عامل اللغة آثارها السلبية على العلاقة ما بين الفريقين، وبينما فضح الاختلاط المشار إليه ضعف جاهزية المجتمع التركي إلى الانفتاح الثقافي على ألوان أخرى، وجد المجتمع السوري اللاجئ نفسه متقوقعًا في دائرة ردة الفعل، ومدافعًا عن تُهم وُجّهت إليه من قبل جهات تركية معارضة، استغلت المشاكل التي تكتنف المجتمع التركي وحالة الضعف لدى المجتمع اللاجئ، من بينها تهمة ترك الدفاع عن الوطن والفرار من الواجب، فبات اللاجئ السوري الغريب عالقًا في عقدة الإحساس بالذنب أو الاستضعاف.

وفقًا لأحدث الإحصاءات التي كشفت عنها المديرية العامة لرئاسة الهجرة التركية عام 2022، فقد بلغ عدد السوريين المقيمين على الأراضي التركية ثلاثة ملايين و741 ألفًا و251 لاجئًا سوريًا. وتصدرت إسطنبول المدن الأكثر استقطابًا لهم، بواقع 535 ألف لاجئ، تلتها ولاية غازي عنتاب بنحو 461 ألف سوري، ثم هاتاي بنحو 433 ألفًا، فـ “شانلي أورفا” بـ 428 ألفًا، وتوزعت الأرقام الأخرى بين ولايات أضنة 255 ألف سوري، ومرسين 240 ألفًا، وبورصة 183 ألفًا، وأزمير 149 ألفًا، ونحو مئة ألف في العاصمة أنقرة.

ويعاني اللاجئون السوريون في تركيا ظروفًا صعبة، تتمثل في عدم الاستقرار، والتخوف من بعض القرارات التي يمكن أن تقلب حياتهم رأسًا على عقب، وأذونات السفر التي تضيق من تحركاتهم ضمن تركيا وخارجها، وباتوا يعانون ضغوطات مجتمعية شتى لا يملكون هم حلّها، تزيد من وطأتها تحديات المرحلة الانتخابية التركية المقبلة.

ولعل من أبرز المشكلات التي يعانيها السوريون عدمُ قدرتهم على ملاقاة أهلهم لسنوات؛ فلا زيارات تُسمح، ولا أوراق رسمية تمكنهم من السفر الى دول أخرى تُمنح، ولا أبواب حصولٍ على تأشيرة دخول “فيز” تُفتح.

إن هذه الضغوطات وغيرها تزيد صعوبة الظروف النفسية عند اللاجئ السوري، وهو الذي بات أخيرًا هدفًا للعديد من الجرائم العنصرية في حقه.

وسط كل ذلك، تتصاعد حدة “العنصرية” وخطاب الكراهية في وجه اللاجئ السوري خاصة، والأجانب من الجنسية العربية عامة، والذين بات يُنظر إليهم على أنهم “سوريون”، لمجرد أنهم يتحدثون اللغة العربية. ومع بداية أي عملية انتخابية (بلدية، برلمانية، رئاسية.. وغيرها)، يتحول التنافس الانتخابي إلى معركة تثير قلق السوريين ومخاوفهم، وبالأخص أن المعارضة التركية وبعض الأحزاب التابعة لها تعمل على الزّج بهم كورقة لإحراج الحزب الحاكم وكسب الأصوات لصالحها.

وأضحى العنوان الأبرز لما يعانيه اللاجئ السوري اليوم في تركيا هو “الخوف” من ترحيله، بسبب لهجة التهديد والوعيد التي تطلقها بعض الأحزاب في حال وصولها إلى سدة الحكم، إضافة إلى مخاوفه من محاولة الحزب الحاكم نفسه امتصاص غضب الشارع التركي، ومحاولة ضبط أوضاع اللاجئين السوريين بشكل قانوني، لكنّ هذا الأمر يؤدي في النهاية إلى ضبط أوضاعهم من “بوابة الترحيل” إلى الشمال السوري، أو إلى ولايات أخرى لا فرص عمل ولا مستقبل لهم فيها، الأمر الذي جعل اللاجئ السوري يعيش في “دوامة وتخبط”، ويدفع ثمن عملية انتخابية تنافسية تحولت -بنظر حقوقيين ومراقبين- إلى “جريمة أخلاقية” من قبل الأطراف التي تستغل هذه الورقة لصالحها.

الصعوبات الإنسانية التي تواجه السوريين في تركيا ليست بعيدة عن أطفالهم الذين يتعرضون لاضطهاد مجتمعي ضمن مدارسهم، ما ترك أثرًا كبيرًا على أهالي أولئك الطلاب والطلاب أنفسهم، بالرغم ممّا يحققون من نجاحات وتفوق ملحوظ ضمن المستويات التعليمية المتنوعة.

وتثير أرقام مبالغ المساعدات المعلن عنها من قبل الدول ومن قبل تركيا حفيظة الأتراك والسوريين معًا؛ فالتركي يظن أن السوري أخذ حقوقه وأنّ الدولة تنفق مبالغ طائلة على اللاجئ السوري، والسوري لا يصله منها إلا نزر أقل من اليسير. وبحسب تقرير صادر عن اليونسيف، العام الماضي، طالبت يونيسف بجمع 242.8 مليون دولارًا أميركيًا، لتوفير الخدمات الأساسية لأربعة ملايين لاجئ سوري ومهاجر، إضافة إلى عائلات المجتمعات الفقيرة في تركيا.

وأسهم مكتب المفوضية الإنسانية للمساعدات (ECHO)، وحكومات ألمانيا واليابان والنرويج وسويسرا والولايات المتحدة الأميركية، إضافة إلى منظمات أخرى غير حكومية، في جمع هذه المساعدات لليونيسف، وأشار تقرير اليونيسف إلى أنّ بعض البرامج التي تتعلق باللاجئين السوريين ظلت تعاني نقصًا في التمويل بشكل كبير، خاصة التي تتعلق بالأطفال، على الرغم من المساهمات السخية من الجهات المانحة والشركاء من القطاعين العام والخاص لليونيسف.

ولفت التقرير إلى أنّ تركيا تواصل طلب الدعم المالي من المجتمع الدولي لمواصلة تقديم المساعدات خاصة لأطفال اللاجئين السوريين، ولا يزال وضع أكثر من 3.7 مليون لاجئ سوري في تركيا، منهم 1.27 مليون طفل، في خطر.

ثانيًا – الناحية الاقتصادية:

عند الحديث عن الجانب الاقتصادي للسوريين في تركيا، تجدر الإشارة إلى أن تركيا تتحمل بعض الأعباء المالية في مجالي الصحة والتعليم.

يعتبر الجانب الاقتصادي من الجوانب المهمة التي تشكل سببًا في حجم السخط الشعبي التركي تجاه السوريين الموجودين على الأراضي التركية، ومما زاد الطين بلة استغلال المعارضة التركية للظروف الاقتصادية الصعبة التي يمر بها المجتمع التركي، من خلال إسناد سبب الأزمة إلى وجود اللاجئين السوريين على الأرض التركية، وهو ما يشير مراقبون إلى عدم صحته، حيث يُسهم اللاجئون في دعم حركة عجلة الاقتصاد التركي، فحجم رأس المال السوري في تركيا ليس بالقليل.

وتجدر الإشارة إلى أنّ اللاجئين السوريين في تركيا بكتلتهم الأكبر يعملون وينفقون من دخلهم أو مدخراتهم، وهو ما يجعلهم رافدًا لإيرادات الدولة، فهم يدفعون بدلات استخدامهم لخدمات كالمياه والمواصلات والكهرباء والغاز، فضلًا عن الضرائب والإيجارات، إضافةً إلى كونهم سوقًا استهلاكيًا كبيرًا في تصريف المنتجات الغذائية والصناعية والنسيجية التركية.

المصرف المركزي التركي من جانبه أعدّ دراسة بعنوان “عواقب التدفق الهائل للاجئين على أداء الشركات وهيكلية السوق وتركيبته”، وأوضح فيها أن السوريين يشكلون 5% من عدد السكان، وأن ذلك أدى إلى زيادة متوسط مبيعات الشركات بنسبة 4%، إضافة إلى زيادة تأسيس شركات جديدة مؤسسة بنسبة 5%.

وأشار وزير التجارة التركي، في كانون الثاني/ يناير 2020، إلى أن عدد الشركات المملوكة لسوريين في تركيا، بلغ 13.880 شركة، بنسبة 2% من الشركات المملوكة للأجانب في البلاد، برأسمال 4 مليارات ليرة (نحو 480 مليون دولار)، وأن إجمالي حجم رأسمال الشركات الأجنبية في تركيا يقدر بنحو 151 مليار ليرة (نحو 18.2 مليار دولار).

لقد كشفت العديد من الدراسات عن الأثر الكبير للعمالة السورية في السوق التركية، حيث تشكل اليد العاملة السورية، وفق احصاءات رسمية صادرة عن الحكومة التركية، أنّ نسبة السوريين من إجمالي اليد العاملة تبلغ 2.9%. ويتنوع توزع اليد العاملة السورية في قطاعات الورش الصناعية والنسيجية والأحذية التي استوعبت نصف العمالة السورية تقريبًا، يليها قطاع الإنشاءات فالشركات والمحلات التجارية، ثم المطاعم والمخابز والأعمال الحرة والزراعة والتعليم وغيرها.

وبالرغم من الحملات الممنهجة لعزو البطالة الموجودة في تركيا إلى الوجود السوري، أوضح العديد من المسؤولين وأصحاب الشركات التركية مغالطة هذا الطرح، وقال مدير عام شركة (إيجا إش) نوري دوغان: “لن تجد الشركات موظفين لتشغيل مصانعها، إن هاجر السوريون”.

ويتقاضى العمال السوريون في تركيا أجورًا لا يقبلها الأتراك، ويقومون بشغل وظائف يرفض العامل التركي شغلها، ومن دون أي تأمين صحي أو ضمان، وإن ذلك يدلل -بحسب مراقبين- إلى تعرّض العمالة السورية في القطاع غير الرسمي في تركيا لحالةٍ من الاستغلال، سواء من قبل أرباب العمل السوريين أو الأتراك، وهو ما يلقي بآثار سلبية على العامل السوري نفسه، وإن كان يوفر على سوق التشغيل التركية كثيرًا من المصاريف.

تشير مصادر صحفية إلى أن 92% من العمال السوريين يعملون أكثر من 8 ساعات عمل يوميًا (45 ساعة عمل أسبوعيًا)، بينهم 59% يعملون لما يزيد على 65 ساعة أسبوعيًا، دون الحصول على تعويض مالي يتناسب مع العمل الإضافي، أو الحصول على حد مقبول من الإجازات أو الحقوق القانونية.

وعلى الرغم من هذه الظروف الصعبة، فإن 75% منهم يتلقون رواتب أقلّ من الحد الأدنى للأجور، على الرغم من انتماء 87% من هذه العمالة إلى الشريحة العمرية الشابة بين 18-30 عامًا، هذا ويوجد عمال مؤهلون “أكثر من المطلوب”، من حملة الشهادات الجامعية بنسبة 20% من إجمالي العاملين السوريين، يعملون في مِهن منخفضة الكفاءة، وفي غير اختصاصاتهم، وهو ما يسبب خسارة مضاعفة؛ وذلك بسبب عدم الحصول على تصريح عمل، وعدم الاعتراف بشهاداتهم.

من خلال ما سبق، يمكن أنّ نستنتج أنّ العمالة السورية أفادت في تعظيم أرباح القطاع غير الرسمي، ودعم القطاعات الاقتصادية الأخرى، وتحوّل السوريون من لاجئين إلى شريحة مجتمعية مهمة، وبحسب مراقبين، فقد اعتمد توسع الاقتصاد التركي أخيرًا عليها، من ناحية علاقة السوريين بالدول العربية المختلفة، وكان لذلك دور مهمّ في فتح منافذ لدخول المنتجات التركية تلك الأسواق.

ثالثًا – الناحية القانونية:

شكلت موجات اللجوء التي أعقبت الربيع العربي منعطفًا قانونيًا واضحًا في تركيا، أظهرت افتقار القانون التركي إلى تنظيم هذا الجانب على النحو الصحيح، ولعل السبب الرئيس وراء ذلك اتفاقات تركيا الدولية التي تخصص قانون اللجوء في تركيا بالقادمين من شمالها إليها وليس من الجنوب.

إن هذه الثغرة القانونية أجبرت الحكومة التركية على إصدار قوانين عاجلة تنظّم الوضع القانوني للوافدين من الدول العربية، فأصدرت ما عُرف بـ “قانون الحماية المؤقتة”، الذي يخول السوريين الحصول على البطاقة الشخصية المعروفة بـ “الكملك”.

لقد أفرزت حداثة التعاطي التركي مع ملف اللجوء العديد من الثغرات، دفع اللاجئ السوري ضريبتها، من ناحية مكان الإقامة وفرزهم على الولايات، أو من ناحية الحقوق والواجبات القانونية التي تنظم عملية وجودهم على الأراضي التركية.

إنّ سياسة الضيافة التي أعلنتها تركيا تفتقر إلى بعض القواعد القانونية الناظمة لها، حيث جعلت اللاجئ السوري على أرضية زلقة، لكونه قد يضطر إلى ترك كلّ ما بناه من مشاريع تجارية واستقرار سكني ومجتمعي وتعليمي في مهبّ الريح، ومما زاد الأمر صعوبة على اللاجئين السوريين وجودُ قوانين سابقة تمنع السوري من حق الملكية العقارية على أراضيها.

مع ازدياد حملات المعارضة الرافضة للوجود السوري، ظهرت مثالب التعاطي القانوني على السطح بشكل صارخ، ووجد اللاجئ السوري، الذي لا يملك أي حقوق تحاكي تلك الموجودة في أوروبا، نفسَه في مرمى النار، ما ألجأه إلى الهروب ضمن المجتمع، سواء في عمله بالسوق السوداء، أو في تعرّضه للترحيل إلى الشمال السوري أو الولايات التي صدرت عنها بطاقة حمايته المؤقتة، وهو الذي استقر تحت سمع الحكومة وبصرها في ولايات غيرها، لضرورة العمل، وبعد أن أسس ركائز تمكّنه من تأمين متطلباته المالية وعائلته على مدار سنوات، بات مهددًا بإعادة تجربة اللجوء في الولاية المفرز لها ومعاودة التأسيس من جديد.

لقد كان اللاجئون السوريون محل تجاذبات قانونية دولية، أبرز تجلياتها الاتفاقية الموقعة بين أوروبا وتركيا عام 2016، والتي نصّت على استقبال تركيا المهاجرين الواصلين إلى اليونان، ممن تأكد انطلاقهم من الأراضي التركية، واتخاذ الإجراءات اللازمة من أجل إعادة المهاجرين غير السوريين إلى بلدانهم، في حين يجري إيواء السوريين المعادين في مخيمات داخل تركيا، وإرسال لاجئ سوري مسجل لديها “رسميًّا” إلى بلدان الاتحاد الأوروبي، مقابل كل سوري معاد إليها. ونصت الاتفاقية على أن تتخذ تركيا التدابير اللازمة لمنع تدفق اللاجئين غير الشرعيين، وهو ما حصر اللاجئ السوري في زاوية البقاء في تركيا، أو ضمن المخيمات.

مشروع العودة الطوعية

تمهيد:

أمام الحالة العصيبة للاجئ السوري والتحديات والصعوبات التي تواجه الحكومة التركية في إدارة هذا الملف، في ظل تسيسه من قبل الجهات المعارضة الداخلية، أعلن الرئيس التركي تأسيس منطقةٍ آمنةٍ في سورية يمكن للاجئين أن يعيشوا فيها، وأعلنت الحكومة التركية خطة العودة الطوعية التي تشمل مليون لاجئ سوري من حملة “الكمليك” إلى الشمال المحرر، للإقامة والعمل ضمن جدول زمني محدد.

لقد أوضح الرئيس التركي أن مشروع العودة الطوعية سيشمل 13 منطقة، في جرابلس والباب وتل أبيض ورأس العين، بالتعاون مع المجالس المحلية التي تشرف على إدارة المنطقة هناك تنفيذيًا، وأن المشروع يتضمن منشآت البنية التحتية، كالمستشفيات والمنشآت الصناعية، ومشاريع اقتصادية صناعية وزراعية، إلى جانب المنازل والمدارس.

وتشير الأرقام التي صرحت عنها الحكومة التركية إلى أنّ 57 ألفًا و306 منازل، من أصل 77 ألفًا، أُنشئت في مئتين و50 نقطة مختلفة، وسيستفيد من المشروع قرابة 50 ألف عائلة.

من الناحية الواقعية والإنسانية:

أثارت التصريحات الرسمية التركية حول مشروع العودة الطوعية ردات فعل حقوقية واسعة، وقال رئيس بعثة الاتحاد الأوروبي إلى تركيا نيكولاس ماير لاندروت: إنّ العودة الكريمة للاجئين السوريين ستسعد الجميع، لكن الظروف المناسبة غير متوفرة حتى الآن، وهو ما أكده المبعوث البريطاني إلى سورية، جوناثان هارغريفز.

وبالنظر إلى الاستهدافات المتكررة التي يشهدها الشمال السوري، من قبل قوات الأسد وحلفائه إضافة إلى قوات (قسد) بواسطة عبوات ناسفة ومفخخات وقذائف مدفعية، والتي توقع خسائر بشرية، يضاف إلى ذلك عمليات الاغتيال التي تنفذها جهات أخرى وسط حالة من الفلتان الأمني وفوضى السلاح؛ يمكن القول إن الطبيعة الأمنية لذلك الشمال غير مستقرة، وأن مشروع العودة الطوعية الذي يشترط أن تكون المناطق التي يعود إليها اللاجئ آمنة ما هو إلا عملية نقل لأزمة اللاجئين من الداخل التركي إلى السوري.

وهو ما يستوجب العمل على تأهيل المنطقة بشكل واقعي، لتصبح جاهزة لاستقبال اللاجئين السوريين، ولن يكون ذلك متاحًا إلا بعد فرض مصطلح آمنة على نظام الأسد وبقية الأطراف. ومن ناحية أخرى، لا يمكن ربط موضوع العودة بمسألة الأمان فقط، فهناك غياب كبير لمقومات الحياة الحقيقية في مناطق الشمال السوري، حيث لا بنى تحتية ولا مشاريع تجارية ومدنية تؤهل المنطقة لاستقبال اللاجئين.

لم يُخف اللاجئون السوريون في تركيا مخاوفهم إزاء المشروع، وأوضحوا أنهم غرباء عن المنطقة التي تنوي الحكومة التركية إعادتهم إليها، فهم أبناء دمشق وحمص وحلب، وليسوا أبناء جرابلس والباب وإعزاز. هم أبناء مدنٍ ما زالت تحت سيطرة الأسد الذي يسلط المخاوف الأمنية على رقابهم، حال عودتهم إلى مناطقهم التي خرجوا منها حفاظًا على حياتهم وحقهم في الحرية التي قتلتها معتقلات الأسد.

إن مسألة العودة الطوعية ترتبط بشكل وثيق بأدوات التنفيذ والشرائح المستهدفة، وبينما يرفض كثيرون العودة إلى المجهول الذي ينتظرهم في الشمال، يشير مراقبون إلى أن هذه العودة قد تلاقي قبولًا عند أهالي المناطق التي يجري إعادة تأهيلها، ممن لم يؤسس عملًا في تركيا، وإلى بعض الراغبين في العودة من غيرهم ممن ظروفهم المعيشية في تركيا دون مستوى القبول، وإن اشترطوا لعودتهم عدم التنازل عن حقهم في العودة إلى مدنهم الأصلية التي هجرهم الأسد منها، وكانت تركيا ضامنًا لاتفاقات شملتها.

من الناحية القانونية:

إن مشروع العودة الطوعية الذي تطرحه الحكومة التركية تنظّمه العديد من النقاط.

يشير قرار مجلس الأمن رقم “2254” لعام 2015 في الفقرة “14” إلى أنّ عودة اللاجئين السوريين إلى مناطقهم الأصلية يجب أن تكون طوعية وآمنة، وبناء على ذلك، لا يحقّ للدولة التي استضافتهم إعادتهم، قبل زوال الأسباب التي دفعتهم إلى الهجرة، وهو ما لم يتحقق حتى الآن، بسبب بقاء الأسد.

ومع أن القانون الدولي الذي وضع تلك الشروط يفتقر إلى تعريف واضح للمناطق الآمنة، فإن العرف الدولي يفترض أنها المناطق التي اتفقت الأطراف المتنازعة على إقامتها، وهو ما يستوجب إقرار نظام الأسد بها، على اعتباره أحد الأطراف المتنازعة، وهو ما لم يكن أيضًا.

ويشير العرف الدولي إلى أنّ تلك المناطق يجب ألا تحمل صفة عسكرية، وأن تخضع لإدارة مدنيّة، وهو ما تفتقر إليه تلك المناطق.

وبالنظر إلى الاتفاقات التي أفرزت هذه المناطق، والتي كانت تركيا أحد الأطراف التي أبرمتها، تصف اتفاقات سوتشي وآستانة المناطق في الشمال السوري بمناطق “خفض تصعيد”، وليس بالمناطق الآمنة.

يقول حقوقيون إنه على الرغم من تحفظ تركيا على النطاق الجغرافي الذي تنظمه اتفاقية حقوق اللاجئين لعام 1951، فإن ذلك لا يُعفيها من تقديم الحماية لطالبيها، وذلك من قبيل احترام مبدأ عدم الإعادة القسرية والمواد ذات الصلة.

وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن مشروع العودة الطوعية ما لم يقترن فعليًا بشرطي الطوعية والأمان الذي تسعى تركيا إلى تحقيقه، لا ينسجم مع القانون الدولي ولا المحلي التركي الناظم لهذا الشأن. حيث تشير المادة السادسة من قانون “الحماية المؤقتة” إلى عدم جواز إعادة أحد من الأشخاص الذين تشملهم اللائحة إلى مكان قد يتعرضون فيه للتعذيب أو المعاملة غير الإنسانية، بسبب العرق أو الدين أو الجنسية أو الانتماء”.

النتائج والتوصيات:

مما تقدّم، نستنتج أن ملفّ اللجوء السوري في تركيا يعتريه العديد من المشكلات المتراكبة، على الصعيد الاجتماعي والقانوني والاقتصادي والسياسي، وأن حلّ هذه المشكلات يستوجب خطوات جريئة ضمن الضوابط القانونية التي تفرضها القوانين الدولية والحقوق الإنسانية، فمشكلة اللجوء حقيقة واقعة تمرّ بها كلّ الدول، وحقوق اللاجئين لا بدّ من مراعاتها.

وعليه، فإن مشاريع الدمج في المجتمعات المستضيفة لا تكفي وحدها لردم الصدع بينها وبين المجتمعات الوافدة، ولا بدَّ من تحضير المجتمع التركي لاندماج أجسام مجتمعية جديدة فيه، وهذا لا يمكن أن يتم دون سنّ قوانين جديدة تنظّم حياة اللاجئ وتحفظ حقوقه من المطبات العنصرية التي يمكن للبعض أن يستغلها لصالح مكاسب سياسية وحزبية ضيقة، ولا بدّ من تفعيل حق اللاجئ في الشكوى على منتهكي حقوقه، وفرض رقابة صارمة على تفعيل تلك الحقوق وتطبيق القانون الناظم، وهو ما تداركته السلطات المعنية أخيرًا من خلال إطلاق رقم خاص لهذه الشكاوى.

إن مسألة اللجوء تنظّمها قوانين وأعراف دولية، والأحزاب التركية المعارضة والمؤيدة ملزمة بمراعاتها، والحديث عن مشروع للعودة الطوعية يستوجب حوكمة للمناطق التي يجري إعدادها للعودة وتجهيزها بشكل يدفع اللاجئ للعودة إليها، كما يستوجب ذلك مراجعة القوانين والأنظمة التي جعلت أبناء الأسرة السورية الواحدة متفرقين لا يمكنهم اللقاء في أي دولة أخرى، بسبب شروط الفيز، وتقييد حق السفر والحركة للاجئين السوريين.

كلّ ذلك لا ينفي واجب المجتمع الدولي في تطبيق مبادئه الإنسانية بهذا الملفّ، وتوفير أسس الاستقرار، ومراقبتها، وفرض الحل السوري المتمثل بالانتقال السياسي الذي يُنهي سبب هجرة السوريين الأول، ويمكّنهم من العودة إلى مدنهم الأصلية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إعلان في أسفل التدوينة

إتصل بنا

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *