في مقال سابق بعنوان "السوريون مختلفون" تمت مناقشة الشرخ المجتمعي والنفسي الذي يباعد السوريين، والكارثة التي حلّت بهم خلال العقد المنصرم، وغيابهم عن تقرير مصيرهم، وحضور كل شياطين الأرض داخلاً وخارجاً، لتعبث بحياتهم؛ ما قد يطيل في عذاباتها، ويفقدهم ويسلب منهم وطناً ليس لهم غيره.
وجرى الحديث عن استحالة إعادة تكرير منظومة الاستبداد الأسدية، بحكم أن وجودها الحالي أضحى بلا هيبة أو سيادة أو قرار؛ لأن إيران وروسيا هما مَن يمتلك القرار، حيث هي توجد شكلياً، ويتحوَّل وجودها إلى عبء مكلف، حتى على حماتها المأزومين بملفاتهم الخاصة. ومع غياب تأثير العنصر الأساس في المعادلة السورية - تحديداً شعب سوريا على ضفافها المختلفة - رأيت في السطور التالية وجوب البحث عمّا يجمع أهل تلك الضفاف، والتركيز على المشتركات الممكنة وتعزيزها، للحفاظ على ما تبقى من السوريين ومن وطنهم.
بداية، مصير مَن لا يزال رهينة للنظام، لأسباب لا حصر لها، أن يستفيق ويصحو من عملية البرمجة الدماغية المزمنة، التي تعرض لها على يد آلة متوحشة تمسخ إنسانيته وفكره وكيانه الحر. ولا شك أن وصول الأكثرية السورية إلى حالة العدمية والانسحاق بسبب معاناةٍ على كل الصعد قلَّ مثيلها عالمياً، إشارة إلى أن الصحوة لا بد آتية. وقد يزيد في هذه الصحوة خلاصاً من حالة الفصام التي كرستها آلة البرمجة والأبواق الشيطانية. ومن هنا، لا بد من محاولة تغيير التردد المهيمن على دماغها، والتوليف على تردد الحقيقة لانتفاضة سوريا عام 2011.
آن الأوان أن يدرك مَن مازال رهينة لمنظومة الاستبداد خارج إرادته أو مختاراً لأسبابهما، أن من قتل سوريين منتفضين هو ذاته الذي قتل أحباء مَن مازالوا رهينته. ومَن كذب وشوّه وشرّد واعتقل، هو ذاته الذي مازال يفعل الشيء ذاته؛ ومستعدٌ لتشويه واعتقال وإذلال وتشريد مَن معه، إن هم خَرَجوا على طاعته المطلقة. آن الأوان أن يدرك هؤلاء أن أهل الثورة والمعارضة وقفوا في وجه من اضطهدهم ودمر بيوتهم واقتلعهم وشردهم؛ ويعمل الآن على اقتلاع أو تشريد مَن بقي حوله بخنقه للبلد بالفقر والمخدرات، وبتوعدهم بالمصير ذاته، إن هم باحوا بما في داخلهم.
الثورة والمعارضة يعادون إسرائيل فعلا؛ أما منظومة الاستبداد فهي كلب حراسة وحماية لـ "حدود" إسرائيل؛ فالمنظومة لم تطلق رصاصة باتجاه إسرائيل يوماً منذ نصف قرن
الثورة وقفت في وجه من يتصالح ويتنازل لأي جهة إلا للسوريين، كيفما كان مشربهم؛ إنه من يحمي حدود العدو، ويزايد على الجميع بالمقاومة؛ والكل يرون خنوعه. إنه من يحاول إقناع السوريين كافة بأنه عندما يهزم من يعارضه عسكريا، فهو يقتص من إسرائيل باستهداف عملائها؛ ومعروف أن مَن مازال رهينة له، والثورة والمعارضة يعادون إسرائيل فعلا؛ أما منظومة الاستبداد فهي كلب حراسة وحماية لـ "حدود" إسرائيل؛ فالمنظومة لم تطلق رصاصة باتجاه إسرائيل يوماً منذ نصف قرن. فقط ليسأل مَن لا يزال رهينة أين أبناء تلك المنظومة الإجرامية. هل هم في الجيش مثل أبنائهم الذين قضوا دفاعاً عن تلك المنظومة، لا عن الوطن؟! لقد آن الأوان أن نتكاشف وأن نتكاتف.
لم يكن هناك وجود لمرض الطائفية في سوريا، قبل أن تغرز هذه المنظومة مخالبها السامة في عقول شعب سوريا، وتستخدم وباء الطائفية كأداة لبعثرة المجتمع السوري، كي يُنهَكَ ويسهُلَ استعباده. ما معنى أن تكون سوريا، التي تحمل وتعيّش ثمانين مليون إنسان ببحبوحة، بهذا العوز والذل؛ ويكون الحصول على أي حق- ولو الفُتات- مِنَّةً ومكرمة من هذه المنظومة، التي ابتلعت خيرات سوريا لعقود من الزمن؟! هل هذا يطول فقط مَن ثار على النظام، أم يمس كل إنسان سوري؟!
إذا كان اقتلاع ملايين السوريين خلال العقد المنصرم من بلدهم عبر تدمير بيوتهم أو اعتقالهم أو قتلهم تحت التعذيب؛ أليس الخطف والمخدرات والفساد والإذلال والتجويع أدوات مشابهة تستهدف مَن بقي؟! أليست المناطق التي تسيطر عليها منظومة الاستبداد سجناً كبيراً يريد مَن فيه الخروج منه؛ والمنظومة تعمل على رميّه حتى بأسماله في وجه العالم مهجراً أو نازحاً، كي تطيل بعمرها في السلطة؟! ألم تعطِ هذه المنظومة لاستبداديي المنطقة دروساً بامتهان كرامة الشعب وإذلاله؛ ولا أحد يحاسبها أو يلتفت فعلياً لجرائمها؛ بل البعض يسارع للتطبيع معها؟!
قريباً سيكون هناك مادة تدريسية في مناهج دراسة أبناء الرهائن عن "الحرب على سوريا". ستقدم فيها منظومة الاستبداد تزويراً جديداً للتاريخ، ولما حدث في العقد المنصرم، ولأسباب الوضع الحالي السوري؛ وسيكون سببه حسب أكاذيب "النظام"، وانفصامه عن الواقع "المؤامرة الكونية" على سوريا وعلى "نظام المقاومة والممانعة والصمود والتصدي"؛ وأنتم والقاصي والداني بات يعرف أنه إذا كان هناك مِن مؤامرة فهي على شعب سوريا؛ ولم يكن هذا "النظام" إلا أداتها. والإرهاب، الذي يتهم به من ثار عليه أو عارضه، هو من صناعته بامتياز.
تلك الانتفاضة قطعاً لم تناصب العداء إلا لِمَن هو أيضاً عدو هؤلاء الرهائن، ولا هي أداة لمؤامرة دولية، ولا كان وراءها "الإخوان المسلمون". وإن كان هناك مِن مؤامرة فهي على تلك الانتفاضة وعلى شعب سوريا، لا على هذه المنظومة الاستبدادية الخادمة لإسرائيل وقوى التجبر العالمية.
عندما قال أحد قادة المنظومة الاستبدادية بأن "النظام استلم سوريا وفيها أربعة ملايين نسمة؛ ولن يسلّموها وسكانها أكثر من أربعة ملايين نسمة"؛ فإنه لم يفكر بأن مَن مازالوا رهينة عنده سيكونون بالضرورة في عداد الأربعة ملايين الناجين، إن هم خرجوا عن العبودية. والفرقة العسكرية التي يقودها ذاك الذي أطلق ذلك الموقف هي التي تحمي ميناء اللاذقية، الذي تضع إيران يدها عليه بمواد صواريخها، التي تمزق بها أشلاء السوريين، ومصانع مخدراتها التي تمزق أرواح شبابها. وها هي إسرائيل تمزق أشلاء ميناء اللاذقية السوري، وما من دفاع أو رد.
هناك مظلومية واحدة لهذا الشعب، هناك حقوق، هناك قرارات دولية تنص على هذه الحقوق، هناك مَن يتمترس عند هذه الحقوق، هناك مئات آلاف الوثائق التي تثبّت إجرام هذه المنظومة
قد أزيد صفحات وصفحات عن حال الرهائن، وعن كونهم ضحية كمَن اقتُلِع من بلده؛ ولكن أكتفي بما قُدِّم، علّه يكون دعوة لكل ضحايا هذه المنظومة الوبائية الاستبدادية، بأن يبدؤوا أولاً بحسن الظن ببعضهم البعض- وخاصة بمن خرج على هذه المنظومة الإجرامية؛ ويعرفوا أن عدوهم واحد، وقضيتهم تحتاج إلى تكاتفهم. وأول ما يمكن أن يفعلوه أن يعتبروا أن "الشعب السوري واحد" وخاصة بالنسبة لهذه المنظومة الاستبدادية. هناك مظلومية واحدة لهذا الشعب، هناك حقوق، هناك قرارات دولية تنص على هذه الحقوق، هناك مَن يتمترس عند هذه الحقوق، هناك مئات آلاف الوثائق التي تثبّت إجرام هذه المنظومة، وهناك عالم لا يمكن أن يبقى صامتاً أو لامبالياً هكذا؛ والأهم هناك إرادتنا جميعاً في الخلاص وتقرير المصير.
يحيى العريضي/ تلفزيون سوريا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق